طقوس وأعمال عدد من الملوك المغرب في شهر رمضان المبارك
شكلت ليالي شهر رمضان المبارك مناسبة دينية بامتياز، حرص من خلالها ملوك المغرب، على امتداد الدول التي حكمت المملكة عبر التاريخ، على الظهور فيها بشكل يلائم قدسية وروحانية الشهر الفضيل، حيث ركزوا على الدروس الدينية، والعبادات المختلفة من قراءة القرآن، وقيام الليل، ومنح الصدقات.
وتتيح المصادر التاريخية الموجودة رصد طقوس وأعمال عدد من الملوك المغاربة، وبرامج أنشطتهم اليومية خلال شهر رمضان، حيث دلت أغلبها على أن هؤلاء السلاطين كانوا يولون لهذا الشهر ولياليه مكانة سامقة، تتسم أحيانا بـ"البريستيج" الديني، وأخرى بإثبات شرعية حكم السلطان.
وتورد الوثيقة التاريخية أن الأمير المرابطي، تاشفين بن علي، أصرّ على إحياء ليلة القدر في رمضان، لتأكيد شرعية سلطته بصفته "أميرا للمسلمين" في وقت كانت فيه الأحداث تعصف بدولته، حيث كان آنذاك يعيش تحت رحمة حصار الجيوش الموحدية في مدينة وهران.
واقترنت نهاية حياة هذا الأمير المرابطي، وفق ما يسرده النص التاريخي، بليلة القدر، حيث إنه سقط بفرسه من قمة ربوة عندما كان يحاول النجاة بجلده من هجمة الموحدين على آخر معاقله، كما يذكر المؤرخ ابن الوردي وغيره"، يقول بوتشيش وهو أستاذ جامعي بمكناس.
وكذلك سار الأمر في عهد الخلفاء الموحدين أيضا، حيث دأبوا على إحياء ليالي رمضان بإقامة صلوات التراويح، وقراءة القرآن، وتنظيم المجالس العلمية، والتبرك بمصحف الخليفة عثمان خلال المجالس العلمية السلطانية ، والقيام بكل ما له صلة بإثبات مشروعيتهم الدينية كخلفاء لا ينازعهم أحد في السلطة".
سلاطين الدولة المرينية
وتوقف بوتشيش في حديثه للجريدة بشأن طقوس الملوك المغاربة في رمضان، وتحديدا أنشطتهم الدينية، عند ما أشارت إليه مصادر تاريخية متوفرة نسبيا في العصر المريني، ففي السيرة المفصلة التي خصصها ابن مرزوق للسلطان المريني أبي الحسن، يمكن استشفاف مجموعة من العادات والطقوس التي كان يمارسها خلال هذا الشهر.
أما في ليلة القدر، فيصوّر هذا المؤرخ السلطان المريني المذكور في عباءة الملك الناسك الزاهد، المتفاني في حبّ الله، إلى درجة أن لا أحد من المصلين كان يستطيع مجاراته في عبادة تلك الليلة، حيث كان يظلّ منتصبا خاشعا في صلاته حتى يختم القرآن في ركعة واحدة، بحسب رواية ابن مرزوق التي رواها عن طريق السماع.
ويعلق بوتشيش على هذا النص بقوله إنه "رغم ما يحمله من طابع المبالغة، وتمجيد شخص السلطان، وإضفاء هالة من البريستيج الديني عليه، ومحاولة تمييز سلوكه الديني عن سائر رعيته، فإن ذلك لا يحول دون استنتاج إيلاء هذا الملك عناية شديدة لإحياء ليالي رمضان، وليلة القدر على الخصوص.
وسجّل هذا المؤرخ أيضا أنه رأى السلطان المريني في شهر رمضان من سنة 776هـ / 1374م، الذي جاء متزامنا مع فصل الشتاء والبرد القارس، وهو يصلي بقدميه دون غطاء، وظل واقفا على رجليه رغم البرودة الشديدة، في الوقت الذي آثر الناس الذين كانوا يصلون معه، الصلاة جلوسا، لمقاومة البرد الذي كان ينهش أقدامهم".
ويضيف بوتشيش أن السلطان المريني، يعقوب بن عبد الحق، لم يخرج عن هذه الصورة من الورع الشديد، والتفاني في العبادة خلال رمضان، فبعد الصلح الذي عقده مع الملك المسيحي سانشو في شمال الأندلس، قفل راجعا إلى الجزيرة الخضراء التي حلّ بها خلال رمضان 1285م، فأقام بها طيلة هذا الشهر مواظبا على صلاة التراويح التي لم يتخلف عنها ليلة واحدة.
وطاسيون وسعديون
ويستطرد بوتشيش سرده لملامح من علاقة عدد من ملوك المغاربة برمضان، والطقوس الدينية التي كانوا يحرصون على القيام بها حينها، وذلك بالتوقف قليلا عند ملوك دولة بني وطاس الذين كانوا يسعون إلى اكتساب الشرعية الدينية أيضا من خلال عقد المجالس العلمية الرمضانية.
ولفت أستاذ التاريخ بجامعة مكناس، في هذا الصدد، إلى أن ابن غازي العثماني المكناسي كان يعد من أبرز علماء الدين الذين كانوا يسمعون صحيح البخاري في المساجد طيلة شهر رمضان، كما تؤكد ذلك كتب الفهارس.
وفي العصر السعدي، يردف بوتشيش، برز اسم الملك أحمد المنصور الذهبي كراع للمجالس العلمية خلال شهر رمضان حسب شهادة المؤرخ الفشتالي الذي يخبرنا عن عاداته في ختم القرآن في ليلة 27 منه، ودأبه على إخراج الأموال والتصدق بها على الفقراء وذوي الحاجات.
الدوحة العلوية
ومن جهتهم، حرص الملوك العلويون على عقد مجالس علمية رمضانية لتثبيت شرعيتهم الدينية منذ السلطان مولاي إسماعيل، ثم بعده السلطان مولاي سليمان الذي كان شديد الإلحاح على قيام رمضان وإحياء لياليه بالإشفاع، وكان ينظم مجالس علمية يجمع فيها صفوة من العلماء، ومشايخ القراء، لبسط المتون النبوية وتفسيرها.
ويقول بوتشيش بهذا الخصوص إن السلطان مولاي سليمان كان يشارك بنفسه العلماء في تلك المجالس، بل كان بما عرف عنه من علو كعب، وغزارة علم، حسب شهادة المؤرخ الناصري، يناقشهم أولا بأول، ويدلي بدلوه، ويبزّهم أحيانا بإيجاد الأجوبة للمسائل التي عجزوا عنها.
وحسبما ذكره المؤرخ ابن داود، فقد تجاوز المولى سليمان القاعدة الإدارية القاضية بتعيين القاضي للأئمة المكلّفين بإقامة صلاة التراويح، فأصدر ظهيرا مؤرخا ب 17 من رجب 1229 هـ،/ 1813 م يعيّن بمقتضاه إماما لصلاة التراويح بالجامع الكبير بتطوان في شهر رمضان من تلك السنة.
وعلى نفس المنوال، سار السلطان العلوي الحسن الأول، فشجع تنظيم المجالس العلمية الرمضانية، حيث يذكر صاحب "الاستقصاء" أنه حلّ بمدينة الرباط في 29 رمضان 1291هـ/ 1874 م، وعقد مجلسا ختم به شهر رمضان، وكان عالم ذلك المجلس الفقيه العلامة المهدي بن الطالب بن سودة الفاسي، وحضر هذا المجلس وفود المدن المغربية، وقضاة الرباط وسلا وعلمائهما.
وأكمل المتحدث سرده لفترات ملوك المغرب العلويين، ومنها عهد الملك محمد الخامس، والذي كان يتسم بوجود الاستعمار الفرنسي، لكنه دأب هو الآخ، خاصة في فجر الاستقلال، على إحياء الليالي الرمضانية بالقرآن الكريم، وختم صحيح البخاري في ليلة 27 من كل رمضان.
أما الملك الحسن الثاني فقد أحدث نقلة في المجالس العلمية فيما أصبح يعرف بالدروس الحسنية، وقد تميّزت هذه الدروس بإشراك أساتذة جامعيين، وأكاديميين، ورجال الفكر، وكان يحضرها ويعلّق على بعضها، بل كان هو نفسه يشارك في إلقاء الدروس في رحاب تلك المجالس العلمية الرمضانية.
وتابع بوتشيش بأن بعض القرارات التي اتخذها الملك الراحل في هذه المجالس العلمية كانت مؤثرة في التاريخ الثقافي للمغرب، يأتي في طليعتها قراره إنشاء دار الحديث الحسنية في رمضان من سنة 1964، وإدخال مادة الحضارة والفكر الإسلامي لمواجهة المدّ الماركسي آنذاك.