الدال والمدلول من خلال أبواب او أقواس تارودانت
مصطلح باب ويجمع على أبواب، هو اسم جامد يدل على معنى بنفسه غير مقترن بزمن، يطلق على المدخل أو ما يغلق به من خشب ونحوه ،،، أما القوس ويجمع على أقواس، في الهندسة المعمارية يمثل عنصر هيكلي بشكل منحني شعاعي يرتكز على دعامتين عادة ما يعلو مساحة فارغة هي المدخل أو الممر.
أبواب تارودانت الخمسة المشهورة هي الأصل بعظمتها التاريخية لازالت صامدة بشموخ تتحدى صروف الدهر وعوادي الزمن حتى أضحت تراثا وطنيا مغربيا بظهير شريف 1931، كلما ذكر سور تارودانت العظيم اقترن اسمه بذكرها ، داخل حزام السور كانت يوجد عدد من الأبواب أو المداخل أو الأقواس التي شيدت في مراحل لاحقة على نفس النمط الهندسي والمنوال المعماري، ارتبطت من الناحية الحضارية بالعمارة الرودانية الأصيلة التي افتقدناها عقب التحولات العمرانية للعقود الأخيرة، عددها تجاوز المائة كانت منتشرة بمدخل الأزقة المغلقة أو الدروب النافدة التي تتجمع مساكنها تحت ممر مغطى يسمى محليا "الصابات"، من بينها نموذجين فريدين spécimen لازال الجميع يمر عليهما من دون توقف وانتباه هما مدخل "الدريبة الطويلة/تسوكت غزفن" ما بين حومة جامع الكبير وحي البلاليع، وقوس "صابة" الزاوية التجانية ما بين حومة سيدي وسيدي ودرب الأندلس..؛ جميع تلك الأقواس أو المداخل هدمت بعدما تهالكت المباني الطينية المجاورة لها والتي كانت ملاصقة بها، أما عن دورها فتعتبر بداية حُرُم لولي صالح كما هو الشأن بالنسبة لضريح " سيدي وسيدي" الذي كان يتوفر على ستة مداخل/أقواس لم يتبق منها سوى ثلاثة: الأول يشد على الزاوية التجانية والثاني بمدخل صف الخرازة من جهة السوق الكبير والثالث بمدخل زنيقة الدجاج أو زنيقة العيالات أو حاليا العطارة من جهة سوق الثمر والسكر؛ كما كانت تعد تلك الأقواس حُرُم درب معين، أو حُرم رْبع/حومة.
من تلك الأبواب/الأقواس الذي أتى عليها حين من الدهر ولم تعد شيئا مذكورا بل أصبحت نسيا منسيا "باب لحفا" كان متواجدا جوار السقاية التاريخية السعدية بأم الأحباب/مجمع الأحباب، كان يَشد من الجهة الشرقية الى حائط المسجد الجامع، أما من الجهة الغربية فهو ملاصق بزاوية حائط ميضأة الجامع، وذلك لربط مكان الوضوء بمكان الصلاة الذي تفصل بينهما الطريق الحالية، وقد هدم قوس باب "الحفا" بداية الستينات من القرن الماضي لتوسعة ممر الأرجل ليصبح على السواء طريق للأرجل والحوافر وما حملت ظهورها، كما هدمت السقايات التاريخية هناك أواخر نفس العقد الزمني وهي الأضخم عرضا والأطول ارتفاعا والأكبر عددا في الأقواس، هذا النمط المعماري الذي تفردت به تارودانت دون غيرها منذ زمن الدولة السعدية، لينتشر بعد ذلك بتارودانت كمدخل وبداية حُرم مشتركة للحارات والأزقة كما سلفت الإشارة، وأخيرا كهندسة معمارية بمدخل/أبواب منازل خاصة القوم وعلية الدار الرودانية، مؤخرا تمت الاستعاضة عن البناء بما يسمى باب "الخوخة" وهو باب كبير من الخشب يزين بالمسامير الحدادية أو منقوش يتوسطه باب ثاني صغير مقوس، بالكاد يتسع لولوج شخص واحد وسطه خرص من النحاس الأصفر لطرق الباب دخولا وجدبه لإغلاقه خروجا، فيما تكسى جنبات الحائط هي الأخرى جوار الباب بصفائح خشبية منقوشة، هذه الزينة السكنية هي عنوان صاحب المسكن.
تسمية باب " لحفا" كما حكى لي المرحوم محمد بن سليمان الروداني، تحيل على مكان محاكمة رمزية تعتمد بالأساس على عنصر التشهير بصاحب المخالفة ولا أسميها الجريمة، لأن تارودانت عاشت مند الأزل الى عهد قريب في منأى عن الجرائم بمختلف أشكالها المادية كالقتل وخيانة الأمانة والمعنوية كشهادة الزور والقذف بالباطل ،،، أما المخالفات المسجلة قبل منتصف القرن الماضي بتارودانت فلا تتعدى جريمتي شرب "الماحيا" التي برع في تحضيرها يهود تارودانت بحومة الملاح، ثم السرقة العينية لأدوات العمل التي يتركها أصحابها في مكان الاشتغال الى حين العودة للعمل. تبعا لعنصر المخالفة، إذا قضيت الصلاة من يوم الجمعة وخروج الناس من الجامع، يُحضر المتهم وشهود الضبط في ساحة أم الأحباب/مجمع الأحباب، فينادي "البراح" بنوع المخالفة ويُأمر المتهم بخلع بلغته وهي حالة نادرة جدا أو نعله من رجليه إذا كان يلبسه، ويطرد من المدينة حيث يخرج من باب "لحفا" حافي القدمين نحو الأجنات والحقول المحادية لساقية تفلاكت شمالا ليتيه هائما على وجهه مدة حتى الجمعة الموالية، فيقدم توبته بباب المسجد و يلبس بلغته من جديد للدخول مرة أخرى من باب " لحفا" الذي خرج منه مطرودا؛ محاكمة رمزية من فوق " دُكانة" حسم فيها منطق العقل والعادات السليمة والأعراف الرودانية التي تستمد أصولها من صلب الشريعة الإسلامية التي تحرم على المسلم شرب الخمر وتجرم السرقة، كل جمعة يُسمع فيها على التوالي اسم المدان ليخرج مطرودا من باب "لحفا" واسم من استوفى مدة الإدانة الرمزية ليجد بلغته أو نعله بمدخل باب "لحفا"، طريقة التشهير هذه دفعت بالعديد من المخالفين لمغادرة تارودانت بصفة نهائية تجنبا لوشم العار والإشارة بالهمس التي ستلاحق صاحب " فضيحة الخمر" على الخصوص بعد الدخول، ومنهم من كانت له توبة نصوحا أقلع بعدها بصفة قطعية عن شرب "لمليحا" وهو لقبها بين أهلها، بل أصبح يتهيب حتى من المرور بالدروب المفضية للملاح، رغم ارتباط سكانه تجاريا وقتئذ بأهل تارودانت، تارودانت التي كان تعداد سكنها سنة 1936 / 8459 شخص، سنة 1952 وهو آخر إحصاء قامت به سلطات الاحتلال الفرنسي 10283 شخص ضمنهما نسبة 10% مشكلة من الطائفة الإسرائيلية الرودانية، كما تجدر الإشارة أنه بعدما استتب أمر فرنسا بتارودانت وشيد مكتب الشؤون الأهلية – بيرو أعراب – والسكن الإداري للضابط الفرنسي 1929، كلاهما له مدخل/قوس ضخم فتح في السور على نمط الأبواب الخمسة الأصلية للمدينة، قام أحد القواد المحليين وشيد مخمرة كانت تسمى "الفوندة" بساحة أسراك لها باب/قوس خاصة بالجالية المعمرة، ونظرا لحساسية الموقع خوفا من الفضيحة يلتجأ "المدمنون" الى خدمات الملاح.
أما الباب/القوس الجنوبي لمسجد أم الأحباب/مجمع الأحباب فقد كان صغيرا جدا وثم تحويله من داخل المسجد الى خزانة armoire وفتح جواره الباب الضخم الحالي سنة 1942 بعدما هدم السقف القديم الهرمي المشيد بالقرميد والخشب من دون زخرفة على شكل المسجد الجامع سيدي وسيدي حاليا، حسب إفادة المرحوم الحاج أحمد أتنان توفي قبل عقدين بعدما ناهز 100 سنة رحمه الله، ولازالت تتراءى من الجهة الشرقية للمسجد بعضا من آثار بقايا السقف الهرمي ملاصقة بالصومعة على واجهتها الشمالية ، الصومعة اللغز التي يحار في تفسيرها المرء، لكونها الوحيدة في المغرب التي بنيت فوق باب/قوس بشكل مستطيل وليس مربع، وأضحت لغز ثقافة عامة مغربية : ما اسمه وأين يوجد مسجد "صمعتو فوق بابو" ؟؟؟
من الأقواس التاريخية المشهورة سابقا بتارودانت قوس "دار الصابون"، باب بهندسة معمارية استثنائية من ناحية الطول الملحوظ والعرض النسبي والحاجب العلوي المدرج والقرميد "المزلج"، لمدة طويلة بعد استقراء واستنطاق الصورة التاريخية المعنية، وحديث همس بين المنظور والمتخيل، وإيحاء بصري من الصور/الوثيقة الى العين، وربط اللقطة بغابر زمنها وظروف التقاطها، واعتبارا لكون نسوة تارودانت الى الأمس القريب من ذوات الحجاب، خلف الأقواس والأبواب، كما يوصفن في العقود العدلية قبل العمل بنظام بطاقة التعريف الرمادية، طالما ظننت أن الأمر يتعلق بمكان خاص ومعزل مخصوص ترتاده فئة من نساء تارودانت لغسل الثياب أو الصوف أو الزرابي أو شيء من هذا القبيل، لأن هذه الظاهرة كانت متواجدة بتارودانت الى حدود عقد السبعينات بساقية جارية على الدوام، مقطع منها تمت تهيئته بحجر الصلصال ومبلطة الأرض بالإسمنت، مكشوف خاص لغسل الثياب قبالة باب الزركان، أيضا بباب الخميس جوار المقبرة مكان آخر لغسل الزرابي والكسي صيفا، كان يقوم بالمهمة فقير نحيف رحمه الله لاستفزازه ننادي عليه "وا بوشتى الله إجيب الشتا"، ثم مخرج ساقية من السور خلف عرصة دوري/ساحة 6 نونبر حاليا،،، الى أن أخبرني في جلسة خاصة مولاي لكبير أنيس وهو ما أكده لي لاحقا الحاج عمر بوري الرودانيين أن "دار الصابون " بأم الأحباب، يتعلق الأمر بمحل لصنع الصابون من بقايا مرْج زيت الزيتون وترسبات حثالة عملية الطحن بالمعصرة التقليدية ومسحوق "الفيطور" ومزج الكل بنبتة عشبية مائية تنمو تلقائيا جوار السواقي أيام كانت المياه تجري من كل حدب وصوب فوق أرض تارودانت، النبتة تسمى "الكُحّيلة" بعد دقها جيدا في المهراس الخشبي تزال الأعواد ويستعمل الباقي لصنع عجين لزج هي أصل المسمى اليوم معجون الصابون البلدي، كما كانت تستخدم نبتة "الكحيلة" كمطهر للجروح البدنية والقروح الجلدية وتعقيم أواني تخزين الإدام والدهن خشية التعفن واللبن احتياطا من التلف بسرعة؛ يشار أنه خلال عقد الأربعينات وما قبله، لم تكن تعرف أسس النظافة البدنية والوقاية الصحية وهي الأسس التي كانت تلح وتركز عليها كثيرا الرهيبات التابعين عمليا لدار نقطة حليب – الميتم حاليا – وفي نفس الوقت يقدمن خدمات الإسعافات الأولية بمستشفى بول شاتنيير والخدمات الاجتماعية في الأحياء بل داخل البيوت الرودانية، خاصة التوعية بنظافة البدن والمكان كسبيل وحيد نحو الوقاية الصحية والرعاية الأسرية.
"دار الصابون" كان بابها قبالة مدخل مدرسة آمنة بنت وهب، هو اليوم ورشة للحدادة العصرية والكي الكهربائيsoudeur في ملكية ورثة الروداني سي عبد الله فاروق/الشينوا رحمه الله، المكان كان عبارة عن عرصة كبيرة كان نصفها الشمالي في ملكية القايد باحيدة الإحياوي، أما نصفها الجنوبي فهو ملكية الحاج حماد خاي الروداني خليفة الباشا الجامعي الفاسي؛ لقد أعطت "دار الصابون" للمدينة ونواحيها دفعة كبيرة نحو مكافحة أسباب بعض الأمراض الجلدية، حيث عرف/اكتشف خلف ذلك الباب/القوس لأول مرة في تارودانت منتوج للنظافة والاستحمام يسمى الصابون، علما أن قبل هذا كان الاستحمام يقتصر على الماء والمحك الحجري أو قطعة من كيس الشتم الذي يوزع فيه السكر بالحصيص "أيام البون"، ومن بين تبعات انعدام وجود الصابون من قبل انتشار آفة القمل لدرجة موبوءة، وهو سبب شيوع حلاقة الموسى ليترك الرأس أصلع؛ بقية حرفة صناعة الصابون مستمرة لعقدين ونيف، حتى قرر المغرب سن نظام الحالة المدنية التي اعتبرت وقتها إجراء إداريا غير مفهوم من طرف الرودانيين وأغلبيتهم الساحقة بسطاء لكن بهمة عالية رغم ذلك، فاضطرت السلطة المكلفة بالإجراء لإعطاء الأشخاص كنية/نسب عائلي بناء على طبيعة الحرفة التي يمارسها رب العائلة، وهكذا يمكن أن تجد عائلتين – من دون تحديد الحومات - تحملان نفس الاسم أو لقب رغم تواجد اسم عائلي دون أن تمت هذه لتلك بصلة قرابة، كعائلة الصبان أو الحريري أو النجار أو العطار أو جيار أو الكباص أو الخراز أو الدراز ،،، لقد كان مجموع تلك الحرف همة وشأن يتوج بها أصحابها رؤوسهم عاليا وتكون مصاهرتهم مطلوبة قبل غيرهم ومجلبة خير "حرفة اليدين ولا مال الجدين"، في زمن ذكر لي مهاجر متقاعد – مدونة سابقة - من منطقة منتاكة كان يشتغل راعي "مياوم بالخبزة" ونزل الى تارودانت ليشتغل في أي عمل كيفما كان بدرهم واحد في اليوم، ومع ذلك يستحيل أن يظفر الشخص بفرصة تضمن له قوت ثلاثة أيام متتالية.
من بين الأبواب/الأقواس بتارودانت مدخل أول كنيسة بالمدينة، الباب/القوس أصبح الآن ممر، والكنيسة تحولت الى تجمع دكاكين تجارية، كان يسميها الرودانيون القدامى قيسارية الأحباس الطويلة، لتبقى معلقة أسئلة شافية تنتظر أجوبة كافية من قبيل، هل أصل المكان عقار حبسي سلم هبة للجالية المسيحية في إطار التسامح الإسلامي الذي عرفت به تارودانت مند عهد مولاي سليمان العلوي الذي وهب "جنان جامع" خلف درب أيت الوخشاشي/لحشيش للطائفة العبرانية ليدفنوا به موتاهم وهو المعارة/المقبرة الحالية؟؟ هل المكان أصلا عقار مخصوص وتمت هبته ليسري عليه نظام الأحباس بعد اقتطاع طرف من فدان "تبحرين" أصل دار نقطة حليب/الميتم لبناء الكنيسة الحالية التي تعلق بها قلب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ؟؟ الدير الكنسي هذا شيد منتصف الثلاثينات بمجمع الأحباب حسب إفادة الراهب برنار كوني Bernard Gounit توفي منتصف أكتوبر الحالي 2014، والمدخل الرسمي لدير إحياء القداس La chapelle بحومة "سيدي بوالسبع" عبارة عن باب/قوس صورة منسوخة طبق الأصل لمعمار سابقه المذكور الذي بدأت تتهالك معالمه الطينية قرب زنيقة البلايغية حاليا مما يندر بفقدان تارودانت أحد أوجه التعايش الديني المتعدد، المعطيات التاريخية حول أول كنيسة بقوسها وصليبها فوقه بالسوق الكبير مفقودة حتى لا نقول نادرة لارتباطها بطقوس ديانة غير أصلية بتارودانت خلاف الديانة الإسرائيلية التي تبث انطلاقا من الوثائق المخطوطة والآثار المنحوتة والقطع النقدية المسكوكة تواجد اليهود بتارودانت مند القرن16.
أخيرا تجدر الإشارة أن مختلف الأماكن ذات الصبغة التعبدية كالزوايا الطرقية الدينية والمساجد والجوامع بتارودانت، جميع مداخلها مند قدم التاريخ هي عبارة عن أبواب/أقواس، حتى تلك التي هدمت بعد أن تهالكت وأعيد بنائها يتم الحفاظ على نمط مدخلها المعماري حيث يشكل القوس إما من الخرسانة والحديد أو الجبص المنقوش أو المزخرف أو باب الخوخة من الخشب المزين بالمسامير الحدادية